بسم الله الرحمن الرحيم
ألفه الأستاذ الدكتور ولي الدين محمد صالح الفرفور
قبل الكلام في مسألة
الخروج على الحاكم ﻻ بد أن نبين من الذي يجوز الخروج عليه ومن الذي ﻻ يجوز الخروج
عليه ، وﻻ يتم الكلام عن هذا إﻻ بعد تصنيف الحكام على ثلاثة أصناف ، وبيان الصنف
الذي يجوز الخروج عليه .
الصنف اﻷول الحاكم الكافر :
الحاكم الكافر الذي يحكم في بلاد المسلمين ، مثل هذا يجوز
الخروج عليه ، وإسقاطه ، باﻹجماع ، واستبداله بحاكم مسلم عادل ؛ لقوله تعالى بسم
الله الرحمن الرحيم ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم (وعلى أن لا ننازع الأمر
أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله تعالى فيه برهان )
الحاكم المسلم الظالم
، اختلف العلماء في هذا على ثلاثة أقسام :
القسم اﻷول : العلماء المداهنون واﻻنتهازيون ، فهؤﻻء هم
المستفيدون من الحكام يوافقونهم في السراء والضراء ، فلا يأمرونهم بمعروف وﻻ
ينهونهم عن منكر فعلوه ، وﻻ يخرجون عليهم حتى لو رأو منهم كفرا بواحا ، فهؤﻻء
علماء السوء ديدنهم المشي في ركابهم والمديح لهم ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فيما رواه أحمد في مسنده وغيره ، عن
جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة :(أعاذك الله من
إمارة السفهاء) قال وما إمارة السفهاء ؟ قال ( أمراء يكونون بعدي ، ﻻ يقتدون بهديي
، وﻻ يستنون بسنتي ، فمن صدقهم بكذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ؛ فأولئك ليسوا مني
ولست منهم ، وﻻ يردوا على حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ، ولم يعنهم على ظلمهم ،
فأولئك مني وأنا منهم ، وسيردوا على حوضي ) .
فاقتران الوعيد بحق هؤﻻء العلماء يدل على ضلالهم .
القسم الثاني : العلماء الجامدون على النصوص ، يأخذون
بظواهرها من غير تعليل ﻷحكامها ، أو ربط بمصادرها ، فهؤﻻء يجيزون الخروج على
الحكام الظلمة ، ويدعون الناس على قتالهم ﻹسقاطهم ، ﻻ بل يوجبونه عليهم ؛ ﻷنهم يكفرونهم بجورهم وظلمهم ، ويخرجونهم من الملة ،
ويعتقدون بأن كل من ارتكب كبيرة ولم يتب منها فهو كافر ، كما أنهم أيضا يكفرون من
سكت على جور الحكام وظلمهم ، ولم يقف في وجههم ، مستدلين بقوله تعالى { وَلاَ
تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن
دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [هود: 113].
واستدلو أيضا باﻵيات التي وردت في حق من لم يحكم بما
أنزل الله كقوله تعالى (ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، وكقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون)َ[المائدة: 45] ، وكقوله تعالى
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون)َ[المائدة:
47].فلذلك ﻻ تجوز طاعة كافر أو ظالم أو فاسق فكيف إذا اجتمعت هذه الثلاث في قلب
رجل واحد .
كما أنهم استدلو بحديثين عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
اﻷول : رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أفضل الجهاد كلمة حق عند ذي سلكان جائر )،
والثاني : رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع
فبقلبه وذلك أضعف اﻹيمان).
فنقول في الجواب على هؤﻻء : إن ما استدللتم به من نصوص
الكتاب هم من العموميات ، واﻹطلاقات التي خصصتها السنة أو قيدتها ، وبناء على هذا
فلا يجوز العمل بها قبل بيان التخصيص والتقييد ، ومثال ذلك النصوص التي وردت في
السنة بالصبر على جور الحكام وظلمهم ، وإن جاروا على اﻷفراد بأخذ المال وجلد الظهر
فإنها مخصصة لعموم اﻵيات القرآنية أو مقيدة لها .
قال عليه الصلاة والسلام : ( السمع وتطيع للأمير ،
وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ، فاسمع وأطع ) فهذا الحديث مخصص لعموم الكتاب . وقوله
عليه الصلاة والسلام ( من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه من فارق
الجماعة شبرا فمات إﻻ مات ميتة جاهلية ) وهذا الحديث أيضا مخصص للعموميات التي
وردت في القرآن الكريم .وما كان ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إﻻ إبقاء على
وحدة اﻷمة ، ووحدة الصف ، واستقرار الدولة وأمنها ، والحرص على حقن الدماء من
إراقتها ، وسلامة اﻷرواح والأموال والممتلكات الخاصة والعامة من إتلافها ، وسد باب
الفتن التي ﻻ تبقي وﻻ تذر .
ونحن نقول أيضا : ﻻشك أن الجور والظلم في اﻷرض قد عم
وطم في بلاد المسلمين ، وأن الفساد واﻹفساد في مفاصل الدولة وفي قطاعات كثيرة
كالقضاء واﻻقتصاد وغيرهما قد أصبح ﻻ يحتمل ، وﻻ يحسن ﻷمة أن تريد الحياة مرفوعة
الرأس أن تسكن إليه ، فكان ﻻبد من الصدع بالحق ، واﻻنكار على المظالم والجور
والفسق ، ورغم كل هذا ﻻ يجوز الخروح على الحاكم المسلم الظالم عملا بقول النبي صلى
الله عبيه وسلم ( إذا رأيتم من وﻻتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ، ولا تنزعوا يدا
من طاعة ) ، ويجب السمع والطاعة له مالم يأمر بمعصية ، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره مالم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر
بمعصية فلا سمع وﻻ طاعة ) ، ولكن ﻻ يجوز الخروج عليه بل يكتفي المحكوم بعدم تنفيذ
المعصية .
الخروج
على الحاكم المسلم الظالم
القسم الثالث : الوسطيون من علماء أهل السنة والجماعة ،
فهؤﻻء وقفوا موقفا وسطيا من القضية ، ﻻ إفراط فيه وﻻ تفريط ، فلا مداهنة عندهم
للحكام الظلمة ، وﻻ مغاﻻة أيضا عندهم في تكفيرهم والخروج عليهم ، فيرون إبقائه في
الحكم إن كان في عزله فتنة ، ويسدون النصيحة إليه ، وإن كان مصرا على ظلمه ، وليس
في عزله فتنة ؛ فيعزله أهل الحل والعقد ﻻ
اﻷفراد ، فهؤﻻء ينظرون إلى النصوص الواردة في هذه الخصوص نظرة تأمل وتدبر ، ويربطونها
بمقاصدها التشريعية وغاياتها ومآﻻتها وأهدافها ، فهؤﻻء أيضا وقفوا للفهم الصحيح عن
الله جل جلاله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فهم يمثلون حقيقة اﻹسلام ، ويردون
أباطيل خصومه ، وهم في الوقت نفسه ﻻ يتزلفون إلى الحكام ، وﻻ يبيعون دينهم بعرض من
الدنيا قليل ، وﻻ يخافون بالله لومة ﻻئم ، ويتكلمون بالحق والعدل .
فهم يطبقون شرع الله كما جاء عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم من غير زيادة وﻻ نقصان ، وﻻ يحكمون أهوائهم وشهواتهم ، ويعلمون أن في
بقاء الحاكم المسلم الظالم في حكمه دفعا للفتنة التي ستحدث في عزله ، فضلا عن إراقة
الدماء والفساد في الناس ، وبهذا تكون المفسدة في عزله أكبر منها في بقائه ، ﻻ
أنهم يراعون شأن الحاكم وحاشيته ، كما أنهم ﻻ يتسترون على أخطائه وجوره وفساده .
ومن عقيدة هؤﻻء العلماء أنهم ﻻ يكفرون المؤمن بذنب
اقترفه ، فالمرتكب للمعاصي من المؤمنين عندهم يسمى فاسقا ﻻ كافرا ، ويفرقون بين
الكفر والفسوق ، ويقولون : الخطأ في تبرئة مئة كافر أهون من سفك دم مسلم واحد ،
بتهمة الكفر أو شبهة الكفر ، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ادرؤوا
الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن اﻹمام أن يخطأ
بالعفو ، خير من أن يخطأ بالعقوبة ) .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم ( أفضل الجهاد
كلمة حق عند سلطان جائر ) ، فإنه يدل على النصيحة للحاكم الجائر ، وأن تأمره
بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، ﻻ أنه يدل على تكفيره والخروج عليه .
الحاكم المسلم العادل ، فهذا ﻻ يجوز الخروج عليه
وﻻ عزله ، وما على المحكومين إﻻ السمع والطاعة مالم يأمر بمعصية ، ﻷن مثل هذا
يستمد سلطته وحكمه وقوته من الله تعالى ؛ ﻷنه يحكم بمضمون ما جاء به الكتاب والسنة
بهذا الخصوص .
هذا ما أجمع عليه علماء اﻹسلام من الصدر اﻷول إلى يومنا هذا بخصوص مسألة
الخروج على الحاكم والله الموفق ..