Sabtu, 12 April 2014

مقالات سيدي الإمام علي جمعة, النموذج المعرفي و تجديد الخطاب الديني - 2

بسم الله الرحمن الرحيم

1- يُكوِّن عقلَ المسلم مجموعة من الإدراكات للسنن الإلهية يراها فيما حوله من الكون الفسيح حتى قال أبو العتاهية:
وفي كل شيء له آية
* تدل على أنه واحد

ولقد تكلم القرآن عن هذه السنن الإلهية، وبينها وهي تعد البيئة الخارجية للنشاط البشري، وهي التي تتحكم في المسلم عند نشاطه واختياراته ووضع برامجه وأهدافه، حتى إذا ما غابت هذه الإدراكات عن ذهن مسلم، فإنه يتخبط ويفقد المعيار السليم للقرار السليم، ويضع استراتيجيات أخرى غير التي أمر الله بها.
ونذكر من تلك السنن ثلاثة مع أنها تزيد عن خمسين سنة:
(أ) سنة التكامل:
خلق الله سبحانه وتعالى الأكوان مختلفة في ظاهرها، لكنها متحدة في الهدف والغاية، فهذا الخلاف والاختلاف إنما هو للتنوع وليس للتضاد، فالليل والنهار يشكلان يوما واحدا، لكل منهما خصائص، والذكر والأنثى لكل منهما خصائص، ولكل منهما وظيفة، والحاكم والمحكم لكل منهما وظيفة، والغني والفقير، وأغلب الثنائيات الخلقية أو القدرية، الخلقية كالليل والنهار والذكر والأنثى، والقدرية الحاكم والمحكوم والغني والفقير، سميناها قدرية لنفرقها عن الخلقية، وإن كان فيها سعي للإنسان واختيار وكسب، إلا أنها من فضل الله وقدره أيضا.
إن فهم سنة التكامل يجعل أصل الخلق عند المسلم هو التكامل وليس الصراع، ولذلك يفهم العلاقة بين الذكر والأنثى على أنها خلقت للتكامل، بخلاف التوجه الذي يدعو إلى أن الأصل هو الصراع، وأنه يجب على المرأة أن تصارع الرجل لتحصل على حقوقها، وأن المحكوم يجب أن يصارع الحاكم للحصول على حقوقه، وأن الإنسان يجب أن يصارع الكون حتى يحصل منه منفعته، على ما استقر في الفكر الإغريقي من فكرة صراع الآلهة وانتصار الإنسان في النهاية عليها.
وفهم سنة التكامل لا ينفي حدوث الصراع أو إمكانية حدوثه ووقوعه، ولكن هناك فرق بين أن نجعله أصلا للخلقة لا يمكن الفرار منه، وبين أن نجعله حالة عارضة يجب أن نسعى لإنهائها حتى تستقر الأمور على الوضع الأول الذي خلقه الله.
هذا التكامل هو الذي يفرق عند فهمه بين المعنى الروحي للجهاد في سبيل الله ومعناه وبين الحرب التي تشن هنا وهناك لأجل المصالح والهيمنة والاستعلاء في الأرض والفاسد فيها أيضا.
فانظر إلى قوله تعالى في أول سورة النساء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء:12]، وقال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، وقال تعالى: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف:32].
فالجهاد في سبيل الله منه أصغر وأكبر، والصغر والكبر إنما يعود إلى الزمن الذي يستغرقه كل واحد منهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ألا وهو جهاد النفس» [رواه البيهقي في الزهد، والبغدادي في تاريخ بغداد]، وقال الله تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) [الحج:78] وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
فالجهاد بالقتال لا يستغرق إلا مدة المعركة وهي قليلة على كل حال، أما الذي يمتد العمر كله، ويعم الناس كلهم والأرض كلها هو جهاد النفس.
وجهاد القتال يجود فيه الإنسان بنفسه من أجل سعادة غيره ففيه معنى الفداء، فوصفه بالأصغر لا يقلل من علو شأنه وأهميته، ولكنه يشير إلى مدته، وأنه صراع عارض لأجل الرجوع إلى حالة الاستقرار والتوازن التي خلق الله الناس عليها أول مرة.
من أجل ذلك رأينا أن القاتل غير المقاتل، وأن من قتل أول مرة عليه وزر من اتخذ هذا سبيلا له عبر التاريخ ويقص علينا ربنا قصة ابني آدم من أجل هذه العبرة: في سورة المائدة من آية 27 إلى 35 ويتبين منها أن الجهاد في سبيله غايته الفلاح وإنهاء الفساد في الأرض والخروج عن مفهوم القتل الذي جعله الله علامة على خذلان ابن آدم وعقابه إلى مفهوم القتال؛ لرفع العدوان، ورفع الطغيان، وعدم السكوت على إنكار المنكر، وعدم السكوت على الإفساد الخسيس للأرض.
(ب) سنة التدافع:
وهي سنة مأخوذة من قوله تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ) [البقرة:251].
وهذا التعبير القرآني يبين حقيقة علو القرآن على التفاسير التي خطها البشر، فهو لم يحصر هذا في القتال أو النزاع والخصام -كما ورد في التفاسير- عبر بالتدافع ليشمل كل أنواع التعاون والاختلاف بل والصراع والصدام للوصول بكل وسيلة إلى الاستقرار وتحقيق مراد الله من خلقه: عبادة، وعمارة وتزكية.
فالتدافع سنة إلهية تبين أن الإنسان قد خلقه الله سبحانه وتعالى اجتماعيا يحتاج إلى الآخرين، وهم يحتاجون إليه، فلم يخلقه منعزلا قادرا على البقاء وحده حتى يحقق مراد الله من خلقه، بل إنه لابد أن يعمل في فريق ليصل إلى هدفه، وعمله في الفريق وحراكه الاجتماعي ونشاطه الذاتي يحتاج إلى إدراك سنة التدافع، وإدراك هذه السنة يتولد منها قوانين كثيرة لضبط هذا النشاط والحراك، وعليه فإن عمليةً فكريةً لابد أن تسبق النشاط، وهو ما قد يكون الإنسان العصري قد افتقده حيث سبق النشاط الفكر، وكان ينبغي أن يسبق الفكر النشاط ويسبق حديث القلب أيضا الفكر ولهذا موضع آخر يشرح الفرق بين الآمرين.
(ج) سنة التوازن:
وهي سنة قد أشار الله إليها كونيا، قال تعالى: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) [الحجر:19]، وقيميا قال تعالى: (وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا المِيزَانَ) [الرحمن:9]، وقال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [الشورى:17]، وقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25].
ونرى مرة ثانية أن الاستقرار هو الأساس الذي يجب أن ينتهي إليه النشاط الإنساني بعد التوتر الذي يبدأ به، وإذا تحدثنا عن مثل هذه السنة لرأينا أنها سنة كونية وسنة قيمية، ونأخذ منها موقفنا من قضايا البيئة وموقفنا من قضايا الفكر، وموقفنا من مفهوم العدل خاصة إذا رأيناها تمتد إلى الآخرة والحساب وتمثل دالاً على عدل الله سبحانه، قال تعالى: (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ) [الأنبياء:47]، وقال سبحانه: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ) [الأعراف:8] والذي لابد للإنسان أن يتمثل به ثم يأتي التكليف على وفق هذه السنة مشيرا إلى أن التكليف بالأحكام مرتبط ارتباطا تاما بالسنن الإلهية المحيطة بنا، وأن تطبيق هذه الأحكام من خلال فهمنا للسنن وتفاعلنا معها هو الضامن لتحقيق هدفها والوصول إلى مقاصدها يقول تعالى: (فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأعراف:85].
2- إن دراسة السنن الإلهية بل واستقلال علم بدراستها وبيان علاقتها مع المبادئ العامة القرآنية التي تكون أيضا عقل المسلم من فوح قوله تعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام:164] وقوله سبحانه (وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة:179]، وقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) [المائدة:95]، وقوله سبحانه: (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم:39]، وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78] إلى آخر ما هنالك من أسس ومبادئ تبين أن الضرر يزال واليقين لا يرفع بالشك، والأمور بمقاصدها ونحو ذلك.
أقول إن دارسة السنن الإلهية أصبح واجبا يمكن أن يفيد الإنسان والإنسانية بنظرة جديدة لمجموعة العلوم الاجتماعية والإنسانية ويمكن بهذه النظرة أن تتهيأ لتجديد علمي واع للخطاب الديني.
3- لقد ألف المرحوم الشيخ محمد الصادق عرجون عن السنن الإلهية، ودعا الشيخ رشيد رضا في المنار إلى الالتفات إليها، ومن المحدثين تكلم عنها د. جمال عطية، وكتبت السيدة زينب عطية موسوعة لها، وللدكتور عبد الكريم زيدان كتاب مستقل، وهناك إسهامات د. مصطفى الشكعة وتلامذته في هذا الشأن، أما الدكتور سيف عبد الفتاح في كتابه مدخل القيم يعد محاولة جادة رصينة لبدء تكوين هذا العلم الذي قد يصل بنا إلى بناء علم أصول فقه الحضارة بعد أن وضع الشافعي أصول فقه النص الشريف.
إن توليد العلوم والذي توقف في القرن الرابع الهجري، وتوليد الحضارة منها على مقتضيات العصر الذي نعيشه هذا هو الأصل في تجديد الخطاب الديني بعيدا عن الجهالة وعن الأماني وعن الآمال التي قد تخطر ببالنا مع كسل مريع في تحصيل العلم.


مرجع :
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=10153989112925144&set=a.10151817027930144.852527.90845230143&type=1&relevant_count=1

Tiada ulasan:

Catat Ulasan