Sabtu, 12 April 2014

مقالات سيدي الإمام علي جمعة, النموذج المعرفي و تجديد الخطاب الديني - 3

بسم الله الرحمن الرحيم

1- إدراك الواقع بعوالمه المختلفة جزء من أجزاء تجديد الخطاب الديني، ولابد علينا من تحديد معنى الواقع المعيش الذي نحياه ونتعامل معه، والواقع له عوالم خمسة: عالم الأشياء، عالم الأشخاص، عالم الأحداث، عالم الأفكار، وعالم النظم، ويمكن أن نضيف إليها كل يوم ما يتناسب مع استقراء الواقع، وتحليل مكوناته.
كما أنه لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم الخمسة في غاية التركب والتداخل، وليست منفصلة بأي صورة من الصور، مما يجعل من إدراك العلاقات البينية بين كل عالم فيها مع العوالم الأخرى جزء لا يتجزأ من فهم الواقع الفهم الدقيق الواضح، وأيضا لابد علينا أن ندرك أن هذه العوالم ليست ثابتة، ولذلك فلابد من تفهمها في تغيرها الدائم المستمر باعتبار أن هذا من سنن الله في كونه (كل يوم هو في شأن) [الرحمن:29].
2- إن عالم الأشياء يحتاج إلى منهج في التعامل معه مرده إلى العلم التجريبي الذي حقق عند المسلمين وغير المسلمين نجاحا باهرا في تسخير الكون والاستفادة منه وتحصيل القوة في مجال الصحة والحياة اليومية والعلم … إلخ. نحو حياة أفضل، والعلم التجريبي يجب أن نتخذه في ظل مفاهيم واضحة وهي:
(أ) أنه ليس هناك حد للبحث العلمي من أي جهة كانت، فإن الأمر عام ومطلق في شأن تحصيل العلم، وذلك في آيتين حاسمتين الأولى تفيد العموم والأخرى تفيد الإطلاق قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا) [النمل:69]، فأمر بالسير على عمومه، وبالنظر على عمومه وقال تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) [الزمر:9]، فأطلق العلم ولم يحدد: يعلم ماذا؟ هل يعلم الكونيات أو الشرعيات أو المفيد أو غير المفيد؟
(ب) ومن المناسب أن ننبه أن العلم في لغة القرآن هو ذلك الذي يوصل إلى الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر:28]، والعلماء جمع عليم، وليس جمع عالم، فجمع عالم عالمون وجمع عليم علماء، مثل حكيم وحكماء، وخبير وخبراء، وفقيه وفقهاء، قال تعالى: (وفوق كل ذي علم عليم) [يوسف:76].
(ج) لابد أن يلتزم التطبيق العلمي واستعمال العلم في الحياة بالأخلاق والأوامر والنواهي الربانية التي تريد للإنسان حياة سعيدة قوية تؤدي إلى التعمير ولا تؤدي إلى التدمير، تؤدي إلى حرية الإنسان والاختيار ولا تؤدي إلى سلب إرادته والإجبار، تؤدي إلى المساواة بين البشر ولا تؤدي إلى عبادة بعض البشر للبشر، وهيمنة الشمال على الجنوب، والقوي على الضعيف، فلا نتوصل بالاستنساخ أو الجينوم أو الهندسة الوراثية أو التدخل البيولوجي أو علوم الفضاء إلى الفساد الاجتماعي، أو الهيمنة التي تحصل المصالح لبعضهم على حساب الآخرين، أو تؤدي الخريطة الجينية إلى التسلط على الإرادة والتلاعب بالاختيار.
(د) لابد من التخلص من عقلية الخرافة، وهي العقلية التي لا تفرق بين المجالات المختلفة، ولا تقيم الدليل المناسب لإثبات القضية محل النظر، ولا تتبع منهجا واضحا محددا من قبل في التعامل مع الحقائق، ولا تعتمد مصادر للمعرفة، وهذه العقلية الخرافية التي نريد أن نتخلص منها لابد أن يكون ذلك في مجال الحس، ومجال العقل، ومجال الشرع، فهذه المناهج المختلفة التي تدعو إلى الانتحار أو الانبهار أو الاجترار أو الانحسار أو الاغترار منهاج مرفوضة، فمنهج الانتحار الذي يؤدي إلى التكفير المؤدي في نهاية الطريق إلى التدمير والتفجير مرفوض، ومنهج الانبهار بالآخر والتعدي على مصادر الشرع من كل غير متخصص بين الإفراط والتفريط حتى يخرج علينا من ينكر الإجماع، أو يخرج عن مقتضيات اللغة، أو عن هوية الإسلام أو يحول الإسلام إلى لاهوت التحرر أو لاهوت العولمة.
ومنهج الانحسار الانعزالي الذي يؤدي إلى الفرار من الواقع الذي يشبه الفرار يوم الزحف منهج مرفوض أيضا، باعتبار أن مخالطة الناس والصبر عليهم خير عند الله من العزلة قال تعالى: (فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) [يوسف:18] وقال رسول الله صلى الله عليه سلم: (المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على آذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم) [رواه الترمذي، وابن ماجة].
أما منهج الاجترار فإنه يتمثل في التمسك بمسائل التراث تمسكا يحكي صورتها دون الوقوف عند مناهج التراث والتجريد أمامها حتى يمكن تطويرها إن احتاجت إلى تطوير أو الاستفادة بها حتى على حالها إن كانت تصلح لذلك.
فهو منهج ما ضوي إن صح التعبير يريد بإصرار أن نتغاضى عن واقعنا، وأن نستمر في واقع قد تغيرت عليه الحياة، حتى رأينا كثيرا من الناس يخرجون من دين الله أفواجا لظنهم أن هذا هو دين الله، وأن دين الله بذلك من طبيعته ألا يصلح لزماننا هذا، وهو وهم خاطئ ومخطئ، خاطئ لأنه مخالف للحق، ومخطئ لأنه مخالف للواقع.
أما منهج الاغترار فنراه عند كثير من خارج الدراسات الدينية الأكاديمية، الذين أقحموا أنفسهم في مجال الكلام في الشرع الشريف تشهيا لإصلاح الدين بزعمهم، تارة أو للإدلاء بآرائهم التي يرونها مهمة تارة أخرى، وقد نراه أيضا عند الدراسين الدراسات الشرعية في مراحلها الأولى، مع ظن لا يتناسب مع ظن العلماء الراسخين في العلم؛ حيث يعتقدون أن لهم الحق في تجديد الدين غافلين عن قلة بضاعتهم الشرعية من ناحية، والمسافات الشاسعة بينهم وبين إدراك الواقع من ناحية أخرى، وهنا يجدر بنا أن ننبه على فارق مهم بين البحث (في) علم ما وبين الكلام (عن) ذات العلم، والفرق بين (في) و (عن) أن (في) تستلزم استكمال العملية التعليمية بعناصرها الخمسة، الطالب، والأستاذ، والكتاب، والمنهج، والجو العلمي، وهي عملية تهتم بالمعرفة وبالقيم وبتربية الملكات، وتحتاج لكي يبرز نتاجها في الواقع إلى التفرغ والتخصص والأدوات وطول الزمان، بالإضافة إلى الاستعدادات الفطرية من الذكاء باعتباره قوة ربط المعلومات والحرص على تلقي العلم الذي يمكن أن نسميه بالهمة، وبذل الجهد المستمر.
ولقد أشار الشافعي منذ القدم إلى هذا مما يبين أن المنهج العلمي لا يختلف في ذاته وإنما قد يتطور في صياغاته حيث قال:
أخي لن تنال العلم إلى بستة
* سأنبيك عن تأويلها ببيان

ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة

* وإرشاد أستاذ وطول زمان

والبلغة تعني التفرغ لطلب العلم، وأن عنده ما يكفيه من الأرزاق، وهو المعني الذي قامت به الأوقاف الإسلامية عبر القرون، فكان من أهم جهاتها الصرف على التعليم، وعلى الصحة وعلى الأمن الداخلي.
وهذا النمط من الاغترار هو أخطر الأنماط؛ لأنه قد حصل شيئا من العلم الشرعي، إلا أنه تكتمل أدواته حتى يصل إلى مرتبة المجددين.
3- إن عالم الأشخاص قد برزت فيه الشخصية الاعتبارية التي يجب أن نهتم بدراستها دراسة أخرى غير ما ورد عن الشخصية الطبيعية في الفقه الإسلامي، فإن ما ورد في ذلك الفقه عن الشخصية الطبيعية صحيح، ولكن الشخصية الاعتبارية ينبغي أن يكون لها أحكام أخرى تتوافق مع مصالح الناس، وتحقيق المقاصد الشرعية. إن سحب أحكام الشخصية الطبيعية على الشخصية الاعتبارية أمر لم يعد مناسبا وفيه تغبيش على الواقع الذي نريد أن ندركه.
ولقد استقر في الفقه الإسلامي أن الأحكام تتغير بتغير الزمان إذا كانت مبنية على الأعراف الزائدة، والتقاليد المستقرة أو المتغيرة، فباختلاف تلك الأعراف والتقاليد من زمان لزمان، أو من مكان لمكان تتغير الأحكام، كما تقرر أن الأحكام تتغير بين ديار المسلمين، وغير المسلمين في مجال العقود؛ لأن المسلم الذي يقيم في بلاد غير المسلمين ينبغي عليه أن يمارس حياته بصورة طبيعية، وأن لا ينعزل في حارات من غير اندماج في مجتمعه، بل يجب عليه هذا الاندماج؛ لأنه أولاً وأخيراً مأمور بالدعوة إلى الإسلام بمقاله أو بأفعاله أو بحاله.
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) [متفق عليه]، ولا يتحقق له ذلك إلا إذا اختلفت أحكام العقود التي بينه وبين غير المسلمين في ديار غير المسلمين عن أحكام ذات العقود نفسها في ديار المسلمين، وهو مذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، قال ما دام ذلك برضا أنفسهم، وقال: لأن هذه الديار ليست محلا لإقامة الإسلام، وهي نظرة واقعية للحياة من ناحية، ولطبيعة الدين الإسلامي في دعوته بالأسوة الحسنة من ناحية أخرى قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) [البقرة: 143] والرسول في حقيقته إنما بعث كما قال عنه نفسه رحمة مهداة قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء: 107] فلابد أن يكون أتباعه كذلك.
4- عالم الأحداث والخطاب الديني يجب أن يتعلم تحليل المضمون وكيفية استعمال هذا التحليل، وقد ورد في الحديث النبوي عن حكمة آل داود (على العاقل أن يكون عالما بزمانه ممسكا للسانه مقبلا على شأنه) [أخرجه البيهقي في الشُعب].
وعالم الأحداث مركب في الحقيقة من الأشياء والأشخاص والوقائع والعلاقات البينية، وهو أكثر العوالم تداخلا وتسارعا؛ حتى نرى أن وكالات الأنباء الستة الكبرى تبث كل يوم 120 مليون معلومة أغلبها أحداث مما يبين أهمية هذا الجانب ونحن هنا ننبه إليه فقط فنتكلم بشيء (عنه) ولا نتكلم بشيء (فيه).
5- عالم الأفكار والنظم، وعسى أن نفرد لهذا المجال كلاما مستقلا لشدة أهميته، وباعتباره أساسا لكثير من السلوكيات والتطبيق.
إن إدراك هذه العوالم لا يكفي وحده دون إقامة علم ديني لإدراك العلاقات البينية والاستعداد لتداخلها ووضع الطرق المناسبة التي تحقق مقاصد الشرع الشريف من حفظ النفس والعقل والدين وكرامة الإنسان وحفظ الملك على الناس، وهي المقاصد العليا التي أشار إليها الأصوليون والتي أفردها الشاطبي في كتابه الموافقات، وهي التي أيضا تمثل فكرة تقارب فكرة النظام العام في النظم القانونية المعاصرة.
ومن مجمل ما ذكرنا يتضح لنا أهمية دراسة النموذج المعرفي سواء في جانب الرؤية الكلية أو السنن الإلهية أو القيم العليا أو المبادئ القرآنية أو إدراك الواقع من خلال ذلك كله مع الحفاظ على الهوية الموروثة التي تمثل الحقيقة عند المسلمين.


مرجع : 
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=10153989210805144&set=pb.90845230143.-2207520000.1397295599.&type=3&src=https%3A%2F%2Ffbcdn-sphotos-a-a.akamaihd.net%2Fhphotos-ak-ash3%2Ft31.0-8%2F10001140_10153989210805144_2455326701554501995_o.jpg&smallsrc=https%3A%2F%2Ffbcdn-sphotos-a-a.akamaihd.net%2Fhphotos-ak-frc1%2Ft1.0-9%2F10151286_10153989210805144_2455326701554501995_n.jpg&size=2048%2C1471

Tiada ulasan:

Catat Ulasan